موضوع: قتلانا في غزة ...... أشهداء هم؟ الجمعة يناير 30, 2009 1:07 pm
قتلانا في غزة. . أشهداء هم؟
الجمعة 04 صفر 1430الموافق 30 يناير 2009
د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
هو تساؤل تنوّع الجواب عليه، وإن اتفق الجميع على الترحّم عليهم، والدعاء لهم، وتجرّع غصص الألم من أجلهم. تساؤل: أيوصف قتلى غزة بأنهم شهداء؟ أليس الشهيد في سبيل الله هو: الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها . (1)
أليس قد بوّب البخاري في صحيحه فقال: باب لا يُقال فلانٌ شهيد، وأورد فيه حديث: أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم..". وحديث سهل بن سعد في الذي بالغ في القتال، ثم كان آخر أمره أن قتل نفسه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار". (2)
وكل ذلك وغيره تساؤل من فريق واعتراض من فريق آخر على وصف قتلانا في غزة بأنهم شهداء، ولكن التأمّل في الدليل والاستدلال يبين لنا أنه دليل غير صريح، وإنما هو استنباط، ومسرح الاجتهاد فيه واسع، ويمكن أن يتعقب هذا الاستنباط بتعقبات عدة:
أولها: أنّ كتب السيرة مشحونة بذكر الشهداء في بدر وأحد والخندق ومؤتة ومعونة، ومغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسراياه العامة، ووصفهم بذلك.
ولذا قال الحافظ ابن حجر: أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرها شهداء، والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب. (3)
ثانياً: أنّ هناك أحكاماً عملية تترتب على الوصف بالشهادة؛ فالشهيد المقتول في المعركة لا يُغسّل ويُكفّن في ثيابه، ولا يُصلّى عليه، وهذا التطبيق العملي أبلغ في الوصف بالشهادة من الوصف اللفظي.
ثالثاً: الشهادة وصف للعمل، وليست حكماً بالقبول عند الله عز وجل، كما تصف من صلّى بأنه صلّى، ومن حجّ بأنه حجّ، ومن جاهد بأنه جاهد، ومن استشهد بأنه استشهد، وكل ذلك فيما يبدو من حاله، ولا يدل ذلك على الحكم الغيبي بقبول عمله.
رابعاً: ليست الشهادة في سبيل الله بأعظم من الشهادة بالتوحيد لله، ومع ذلك يُقال عمن نطق الشهادة أنه مسلم موحّد، والله أعلم بمن يقولها مستيقناً من قلبه؟!
خامساً: أنّ التقييد المذكور في الحديث: "والله أعلم بمن يُقتل في سبيله"، ليس خاصاً بالشهادة؛ فالله أعلم بمن يصلّي له، وأعلم بمن يحجّ له، وأعلم بمن يصوم له، ومع ذلك نقول: فلان صلّى، وفلان حجّ، وفلان صام، وفلان جاهد، وفلان استشهد، وذلك فيما يظهر من حالهم، وما نرجوه لهم عند ربهم، ولذا علّق الشيخ الطاهر بن عاشور على تبويب البخاري فقال: "هذا تبويب غريب، فإن إطلاق اسم الشهيد على المسلم المقتول في الجهاد الإسلامي ثابت شرعاً، ومطروق على ألسنة السلف فمن بعدهم" . (4)
ولذا فالذي يظهر - والله أعلم- صحة وصف من قُتل في سبيل الله بأنه شهيد، وكذا من مات على حال وُصفت بالشهادة كالغريق، والحريق، والمطعون، والمبطون، وميت الهدم، والتي تموت في نفاسها، ونحن بذلك نصف ظاهر الحال، ونرجو فضل الله، ونطمع في رحمته، ولا نتألّى على الله، ولا نتكلف استظهار غيبه.
ولا نعلم في أيام أحداث غزة من هو أحق بوصف الشهيد من إخواننا الذين أُصيبوا هناك، وقد تجمع فيهم من مؤهلات الوصف بالشهادة ما يكفي بعضه لنيل شرف هذا الوصف. فهم مقتولون دفاعاً عن دينهم أن يكونوا تحت ولاية كفرة معتدين (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). [النساء:141]، ومقتولون دفاعاً عن أرضهم وهي أغلى مالهم، "ومن قتل دون ماله فهو شهيد". (5)
فقد جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" . (6)
مع أن ظاهر هذا الحديث أن هذا الباغي مسلم وليس كافراً، فكيف إذا كان الذي يريد أن يأخذ مالك وأرضك، ويكون له الهيمنة عليك كافراً، بل هو من أشد الكافرين عداوة للذين آمنوا؟!
وأكثر القتلى في غزة من المدنين العزّل الذين قُتِلوا ظلماً في بيوتهم وملاذاتهم التي تنبغي أن تكون آمنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من قُتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد" (7) فكيف بمن قُتل مظلوماً، وقد أُزهقت نفسه وأُتلف ماله؟!
وكذا يوصف بالشهادة من قُتل في قتال البغاة والمحاربين، وقد قال الله تعالى:
(فقاتلوا التي تبغي)، ومن قُتل من رجال الأمن في مطاردة المجرمين والمفسدين، ونحوهم، ثم أما بعد فلا عجب أن يختلف المتأخرون فيما جرى الخلاف فيه بين المتقدمين، ولكن العجب أن يُشهر هذا الخلاف ويظهر في شهداء غزة، ويُطوى قبل ذلك عندما وُصف به زعماء وأمنيون وإعلاميون، والله أعلم.
(1) ينظر المجموع الثمين لابن عثيمين (1/121،122). (2) صحيح البخاري مع الفتح (6/90). (3) الفتح (6/90). (4) انظر: النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح (118)، ونقله وأقره الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في معجم المناهي اللفظية (320). (5) صحيح البخاري (2480)، وصحيح مسلم (141) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (6) صحيح مسلم (140). (7) مسند أحمد (7055).